لم يكن أجمل فيلم أراه ولكنه يضم مغزى لم أستطع تجاهله.. ففي فيلم القرية The Village يعيش الناس حياة زراعية بسيطة وهادئة.. ورغم أنه مجتمع سعيد ومتماسك تشعر بوجود فرق غامض جيل الآباء والأبناء.. تشعر أن جيل الآباء متعلم ومثقف ومترابط ويخفي عن جيل الأبناء سـراً غامضاً..
يعرف الجميع أنهم يعيشون في العام 1897 وأن قريتهم توجد وسط غابة مسحورة ومليئة بوحوش تأكل الناس ليلاً.. ربى الآباء أبناءهم على ضرورة العودة للمنزل قبل الغروب والتقيد بالتحذيرات التي تبثها أبراج المراقبة حول القرية.. سمحوا لهم بالعمل في الهواء الطلق والتمتع بالطبيعة الجميلة ولكن علموهم عدم دخول الغابة المسحورة خشية الوحوش الخطيرة..
صحيح أن (الأبناء) لم يعرفوا أحداً التهمته هذه الوحوش ولكنهم شاهدوها تجوب شوارع القرية بعد حلول الظلام.. تربوا على الخوف منها وسمعوا عنها قصصاً مرعبة لدرجة لم يعودوا يتجرؤون حتى على ذكر اسمها.
وفي المقابل كان جيل الآباء أكثر ثقة واطمئناناً ويؤكدون دائماً عدم تعرضهم لمكروه طالما عادوا مبكراً ولم يتجاوزوا يوماً حدود القرية..
وذات يوم وقع (أول حادث طعن في تاريخ القرية) تسبب بجرح مميت في بطن الشاب لوثيوس.. التهب الجرح فطلبت خطيبته من مجلس القرية (المكون من كبار السن) الإذن بمغادرتها بحثاً عن علاج.. لم يسمح لها المجلس بمغادرة القرية ولكن والدها الطبيب أشفق عليها وأخبرها بالسر الكبير..
أخبرها أنه لا يوجد وحوش ولا غابة سحرية وأن من كان يجوب شوارع القرية ليلاً هم أعضاء المجلس (الذين يتناوبون لبس أزياء مخيفة تبرز منها مخالب وأنياب حادة).. شجعها على تجاوز الغابة وإحضار وصفة تتضمن مضادات حيوية من أقرب صيدلية (وهذا أمر غريب لأن المضادات لم تكن موجودة في القرن التاسع عشر).. ورغم أن المجلس أرسل «وحشاً» لمطاردتها، تغلبت عليه ورمته في حفرة عميقة.. وبعد سيرها مسافة طويلة في الغابة خرجت إلى العالم الحديث (في أيامنا هذه)..
تنتقل الكاميرا فجأة من القرن التاسع عشر إلى عالمنا المعاصر حيث تسير السيارات على الطريق السريع.. ومن حسن حظ الفتاة إليزابيث أنها حين خرجت (من محمية بيكر المغلقة) صادفت سيارة شرطة يقودها ضابط لطيف يدعى كيفن لا يعرف بوجود أحد داخل الغابة.. دعاها لركوب السيارة (التي تراها لأول مرة) وساعدها على الذهاب لأقرب صيدلية لشراء العلاج لخطيبها المطعون..
.. أما القصة الحقيقية للقرية فبدأت قبل ولادة معظم الشباب فيها.. بدأت في عيادة للأمراض النفسية يجتمع فـيها آباء وأمهات فقدوا أبناءهم بسبب جرائم عـنف قاسية.. وخلال إحدى الجلسات يقترح أحدهم (اعتزال العالم) وإنشاء قرية هادئة بعيداً عن كل المعاصي والمآسي الحديثة.. وافقت المجموعة على الفكرة واقترح أكثرهم ثراء إنشاء قرية معزولة في محمية طبيعية تعود لأجداده. وهكذا ولد الأطفال الجدد داخل قرية بعيدة ومعزولة عن العالم المعاصر.. وكي يضمنوا عدم اختلاط أبنائهم بالعالم العنيف (في الخارج) اخترعوا فكرة الغابة المسحورة والوحوش المحيطه بالقرية!!
ورغـم أنه ليس أجمل فيلم أشاهده في حياتي لم أستطع تجاهل مغزاه العميق.. أن كل جيل (يولد لاحقاً) يرث قرية مسيجة من الأفكار يتعلم الخوف من مغادرتها.. يولد وينشأ داخل نطاق ضيق من الأفكار المرعبة والتعاليم المغلوطة التي يفرضها العارفون بحقيقتها.. أفكار ترثها الأجيال الجديدة دون نقد، وتبناها دون تمحيص، وتتقوقع داخلها عن قناعة.. أفكار وآراء ومسلمات تتحول بحكم الزمن وتوافق المجموعة إلى ثوابت مقدسة يخشون كسرها أو حتى التجرؤ على مناقشتها..
لهذا السبب نحتاج دائماً لشخص شجاع يخبرنا بالموجود خارج السياج..
صحيفة الرياض
الخميس 3 شعبان 1439هـ - 19 إبريل 2018م